وجوب الدعوة إلى الله :
يتفق المسلمون على أهـمية الدعوة إلى الله ، ويتحدث كثيرون عن وجوبها على المسلمين ، ونحن مع هؤلاء في وجوب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة ، وتذكير الناس ووعظهم ونصحهم ... إن هذا واجب على جميع المسلمين ، على اختلاف مستوياتهم ، ولكن هذا الواجب يتفاوت بتفاوت المسلمين علماً وفطنة وأسلوباً ومركزاً وعملاً ووقتاً .. وهذا الوجوب مستفاد من آيات كثيرة صريحة في القرآن .. كما في قول الله - سبحانه - : [ ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ][آل عمران : 104] ، وقوله سبحانه - : [ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ][آل عمران : 110] وقوله - سبحانه - : [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي ][يوسف : 108] وقوله - سبحانه - [ ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ] [النحل : 125] ، وقوله - سبحانه - : [ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ][لقمان : 17] . من أصناف المدعوين واستقبالهم للدعوة : استقبال المدعوين للدعوة إلى الله ليس على صورة واحدة مطردة ، ولكنهم ينقسمون إلى أصناف عديدة : فمنهم من يرضى بها ويُقبل عليها ويتفاعل معها ، ويستجيب لأصحابها ، ويثني عليهم ويتقبل كلامهم ، ويدعو لهم ، وهذا الصنف الطيب الخيِّر موجود بكثرة بين جماهير المسلمين . ومنهم من يغلق قلبه أمامها ، ويصمّ أذنيه عن سماعها ، ويعرض ويدبر ويتولى ، ويرفض أن يتفاعل معها . ومنهم من يرفضها ويتوجه إلى الداعين بالاتهام والسخرية والاستهزاء والانتقاد ، ويجعلهم هم السبب في رفض الدعوة ، ويتهمهم في أسلوبهم ومنطقهم وتعاملهم مع المدعوين .. يتهمهم بالتزمت والتعصب والعنف والقسوة والإيذاء . ومنهم - وبخاصة إذا كان صاحب مركز أو سلطان - مَن يرفض الدعوة ويتهم أصحابها ، ثم يوقع بهم من الإيذاء والتعذيب والاضطهاد ما يوقع ، ويصدر في حقهم من الاتهامات والانتقادات والإشاعات ما يصدر .. إنهم متعصبون .. متطرفون .. يصدون الناس عن الدين .
نصائح في عرض الدعوة : يقوم بعض المسلمين -وبخاصة ممن يشغلون مراكز إسلامية رسمية - بتقديم نصائح للدعاة بخصوص عرض الدعوة ، ومخاطبة المدعوين بها ، ويظهرون فيها حرصهم على توصيلها وحسن تقديمها .. ويستشهدون في هذه النصائح بآيات من القرآن تدل على أسلوب الدعوة ، وبعض هؤلاء الناصحين لا ينقصه حسن النية ونبل الباعث ، ولكنه قد ينقصه حسن الاستدلال والاستشهاد والفهم لمعاني الآيات .
الآيات التي يستشهدون بها : يعتمد هؤلاء الناصحون على آية صريحة في أساليب الدعوة إلى الله ، وهي قول الله - سبحانه : [ ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ][النحل : 125] ويستخرجون منها أساليب عرض الدعوة على المدعوين ، ويقولون إنها ثلاثة أساليب : الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن .. ويطالبون الدعاة بالتزامها في مخاطبة المدعوين .. وهذا حق وواجب ، لا مرية فيه .
فهم بعضهم للمقصود بالحكمة والموعظة الحسنة : والعجيب أن بعضهم يفهم المقصود بالحكمة والموعظة الحسنة فهماً خاطئاً يفرغ به الدعوة من جوهرها ومضمونها وغايتها ، ويخلطون فيه خلطاً شديداً بين أساليب عرض الدعوة وبين جوهرها ومضمونها ، فيعممون الأسلوب على المضمون والجوهر . يستخدم بعضهم هذه الآية في أساليب الدعوة في اتهام دعاة صريحين جريئين في دعوتهم ، ويعتبرون هذه الصراحة والجرأة منافية للحكمة والموعظة الحسنة ، ويصنفون هذه الفضائل ضمن المعوقات ، ويجعلون صاحبها متصفاً بالتطرف والتزمت والتشدد والعنف والحدة والقسوة والانفعال والإساءة .. أما المتصف بالحكمة والموعظة الحسنة - عند هؤلاء - فهو الذي يقبل بالانحرافات ، ويرضى بتصرفات أصحابها ، ويرتاد الأماكن والمجالس والمحافل التي تجري فيها مخالفات شرعية ، ويتباسط مع المخالفين فيها ، ويسكت عن البيان والدعوة والنصح .. أما إذا قام بالنصح في هذه المجالس والمحافل ، والتذكير والوعظ لأصحابها ، فإنه مجانب لأساليب الدعوة الحكيمة ، متصف بالغلظة والشدة والقسوة .. أما إذا قام بالإنكار وغادر المجلس ، أو لم يحضره أصلاً ، فإنه متصف بالتزمت والتعصب والتطرف .. والإسلام بريء من كل هذا والدعاة لا يتصفون بهذا ! ! . الدعوة بين الأسلوب والمضمون : إن هؤلاء - كما قلنا - يخلطون بين أسلوب عرض الدعوة وطريقة الاتصال بالمدعوين ، وبين جوهر الدعوة ومضمونها وما يقال للمدعوين عنها . وإن الخلط بين هذين الأمرين ، وعدم التمييز والتفريق بينهما يوقع بعض المسلمين في خطأ في فهم الآيات ، وخطأ في التعامل مع الآخرين ، وخطأ في توصيل الدعوة لهم ، وخطأ في تقديم الدعوة لهم ، وخطأ في النتائج التي قد يحققونها من خلال ذلك . وهي - كما قلنا - مبنية على خطأ أساسي وهو المتعلق بفهم آيات الدعوة وإدراك معانيها واستخراج دلالاتها .
الفرق بين الأسلوب والمضمون : هناك فرق واضح بين الأمرين ، بين الأسلوب والمضمون . بين المنهج والطريقة ، بين جوهر الفكرة وأسلوب تقديمها ، بين الموضوع وكيفية تقديمه .. فرق بين ماذا نقول للناس وبين كيفية هذا القول للناس ، وآداب تقديمه للناس .. وأي خلط بين هذه الأمور في موضوع الدعوة يوقع الدعاة والمدعوين ، والناصحين الموجهين ، والناقدين المنظِّرين في نتائج خاطئة . الأسلوب أو الطريقة أو الكيفية إنما في آداب الدعوة وعرضها وتقديمها للناس . في الصورة التي نقدم الدعوة من خلالها . والإطار الذي نضعها فيه، والآداب التي نراعيها فيها .. في شكل الداعية الخارجي في مظهره وهندامه وتصرفاته وحركاته .. في طريقته في العرض والكلام .. في نبرة صوته وقسمات وجهه وحركات يديه وانفعالات كيانه .. في طريقة اتصاله بالمدعوين وتعامله معهم وتقديم نفسه ودعوته لهم .. أما المضمون والجوهر فهو في نفس الكلام الذي يقوله وليس طريقة قوله .. في الحقيقة التي يقررها وليس في طريقة تقريرها .. في الموضوع الذي بينه وليس في طريقة بيانه والتعبير عنه .. وبعض الناس يجعل المضمون والجوهر والحقيقة والفكرة من الأسلوب والطريقة ، فيقع في تحريف وتمييع في هذا المضمون والجوهر ، ولا يقدم الحقيقة كما يريد الله ، فيخطئ في تقديم الدعوة ، ويقصر في تبليغها .. هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا : كل من أمعن في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقته في تبليغ الدعوة ومخاطبة الآخرين ، يرى الفرق واضحاً بين أسلوبه في عرض الدعوة ومضمونها الذي بلّغه للناس ، يرى الفرق واضحاً بين طريقته في مخاطبة الناس في الدعوة وكيفية هذه المخاطبة ، وبين الموضوع الذي خاطبهم فيه .. أساس دعوته ومضمونها وجوهرها : أن يوحدوا الله ، ويؤمنوا برسوله - عليه الصلاة والسلام - ، هذا لم يتغير في أي ظرف أو زمان أو مكان . هناك حقائق وقواعد وأسس لم يتنازل عنها أو يتراجع ، ولم يفاوض حولها أو يهادن أو يساوم :