واجبات الداعية
العبد المؤمن الداعية إلى الله لا ينبغي أن تشغله الدعوة إلى الله عن مراجعة نفسه وتذكيرها، فإن هذين من المبادئ الإيمانية المهمة، ومن أهم ما يجب أن يذكر به الدعاة إلى الله عز وجل: أولاً: الإخلاص لله عز وجل. وثانياً: طلب العلم الشرعي. وثالثاً: الصبر على الابتلاء.
عناصر واجبات الداعية
1 - من المبادئ الإيمانية أن المؤمن يتذكر ويذكر
قال الشيخ: سفـر الحـوالي حفظه الله.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أفضل خلق الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فنشكر الله تبارك وتعالى على توفيقه وامتنانه وعفوه ونعمه.
من أصول ومبادئ التزكية الإيمانية، أن العبد المؤمن يتذكر ويُذكر، فالألفاظ لا جديد فيها، ولكن في المعاني يجب أن تُذكر وتتذكر، وإن كانت محفوظة ألفاظها عند السامعين، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى ومن عظيم التربية الإيمانية، والتزكية الربانية والنبوية، أن يُذكر الإنسان وأن يتذكر.
فالتذكير لا يشترط له بالضرورة أن يأتي بالجديد، لكن التذكير لا بد منه؛ لأن الإنسان إذا استغرق في العمل وانهمك فيه، ربما ينسى أو تخفى عليه أساسيات وضرورات، كانت حاضرة حية في قلبه وشعوره عند بداية العمل.
أول ما يذكر به الإخلاص
ومن ذلك الإخلاص لله تعالى في الدعوة، هذا كله لا يخفى علينا أهميته -والحمد لله- لكنه إذا انشغل في غمار الدعوة، واستغرق أوقاته فيها، وهي مشكلات كثيرة، وما من شيء تعطيه أوقاتك أو عمرك وما لديك، إلا وتجده يتسع، وخاصة الدعوة وطلب العلم، فمهما بذلت لها فهي أوسع وأعظم من أن يحيط بها جهدك أو وقتك.
ومع هذا الاستغراق وهذه السعة ينسى الإنسان من يذكره بالله تعالى، ويذكره بالإخلاص لله تبارك وتعالى، ومن هنا كان أول ما يجب أن يذكر به بعضنا بعضاً هو الإخلاص، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى }.
فالواجب علينا -جميعاً- أن نجعل أعمالنا وخطراتنا وسكناتنا وأقوالنا، وكل ما نأتي ونذر، خالصاً لله تبارك وتعالى لا تشوبه شائبة، وبذلك نحقق الروح التي تفرق بين الصورة والحقيقة، بين التمثال المنصوب وبين الإنسان الحي الذي خلقه الله تبارك وتعالى في أحسن تقويم.
فإن العمل بلا إخلاص سواء أكان تأليفاً، أم جهاداً، أم كان دعوةً، أم أي عمل آخر، فهو كالتمثال أو الدمية التي لا روح فيها ولا حياة، وإنما حياة الأعمال بالإخلاص لله تبارك وتعالى ومراعاة تقوى الله ومراقبته فيها.
العلم الشرعي
والأمر الآخر الذي لا بد منه هو: العلم، فإن أساس الدعوة إلى الله تبارك وتعالى على منهاج النبوة، هو العلم.
ولهذا جعل الله تبارك وتعالى العلم قبل القول والعمل فقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].
فالعلم هو الأساس، ولا نعني أي علم وإنما العلم المقصود هو: العلم بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً وقبل كل شيء، ثم العلم بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بآثار السلف الصالح ومنهجهم وسيرهم وحياتهم في الدعوة إلى الله، ثم ما كتبه الأئمة والدعاة المجددون، الذي أقام الله تبارك وتعالى بهم الحجة، وأظهر المحجة في أزمنة الغربة وعصور الانحطاط رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وهذا لا بد منه، وما تشاهدونه وما تفرحون به إنما هو ثمرة من ثمرات الحرص على العلم، ولا سيما علم السنة النبوية المطهرة التي ضيعها كثير من المسلمين في هذا الزمن، ولولا هذه الصحوة الطيبة المباركة، وما قيض الله تبارك وتعالى لها من علماء وأئمة مجددين في هذا الفن، لكان الناس في شأن السنة في حال عجيب.
ففي القرن الماضي وما قبله اشتدت غربة علماء السنة جداً، حتى إنك تجد العلماء الكبار من أكبر جامعة في العالم الإسلامي يحفظون القرآن عن ظهر قلب في مراحل متقدمة من العمر، ولكنهم لا يكادون يميزون الضعيف من الصحيح من الموضوع، ولا يعلمون شيئاً في الحديث، وإذا تكلموا أو وعظوا أو كتبوا، خلطو الموضوعات والأباطيل بالصحاح، ولم يميزوا بين شيء منها، فكان في ذلك آفة ومدخل عظيم للشيطان.
إذا فسد العلم فسدت العقائد والأعمال، ولا خير فيها بعد ذلك، فالحمد لله الذي منَّ على هذه الصحوة الطيبة بهذا العلم العظيم، وأحيا في هذه الأمة الاهتمام بحفظ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً وقدوةً.
وما نشاهده في هذه الأيام من التمسك بالسنة في الصلوات في المساجد، وفي المظهر، لم يكن موجوداً قبل خمس عشرة سنة، ولو كنت ذهبت إلى مساجد جدة والرياض والقصيم ، لا تجد التمسك بالسنة مثل هذه الأيام، وإنما تجد بعضاً من العلماء الذين لديهم تمسك بها على حال غربة.
أو تجد الذين يتمسكون بالمذهب، وخاصة مذهب الإمام أحمد رحمه الله والمنسوب له أقرب إلى السنة، لأن أصول الإمام أحمد هي أقرب المذاهب إلى موافقة السنة وكذلك في الفروع.
لم يكن عن اتباعهم للسنة مباشرة، ولكن كان عن اتباع للمذهب الحنبلي في الحقيقة، وعلى هذا كان كثير من العلماء رحمهم الله وجزاهم الله خيراً، لكن الحمد لله هذه الصحوة الطيبة أصبحت تتمسك بالسنة، ولا ننسى العلمين المجددين فيها وهما سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، ومن سار على نهجهما، فإنهم جددوا في هذا الجيل، إحياء السنة رأساً بغير تقيد بمذهب معين، وهذا من التجديد الذي نفع الله تبارك وتعالى به الأمة، والحمد لله على ذلك.
الصبر على الابتلاء
والأمر الثالث بعد الإخلاص لله تعالى وبعد طلب العلم هو: الصبر على ما يُبتلى به الإنسان في طريق دعوته إلى الله تبارك وتعالى، فإن الله تبارك وتعالى يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].
هكذا مضت سنَّة الله، ألاَّ يبعث نبياً إلا وجعل له أعداء، وقد قصَّ الله -تبارك وتعالى- علينا في القرآن من ذلك، مما جرى وحدث مع نوح عليه السلام أو هود أو صالح أو إبراهيم أو لوط أو شعيب أو موسى أو عيسى أو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كل من حدثنا الله -تبارك وتعالى- عنه أو حدثنا عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أنهم وجدوا من يعاديهم من الملأ المستكبرين، ومن الجهال الأغرار، ومن المستهزئين، الذين لا همّ ولا شأن لهم في الحق، ولا يريدون الحق، وإنما غاية ما لديهم الاستهزاء والعبث والاستخفاف بكل من يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى.
فهم يرون دلائل النبوة وآياتها واضحة جلية، ومع ذلك يُعرضون عنها ولا يبالون بها، ويستهزئون بأنبياء الله ورسله الكرام.
هذا في الأنبياء، فليتأسَ بذلك الدعاة، وليتأسَ بذلك كل من سار على منهاج النبوة.
وأعظم الرجال في هذه الأمة وأفضلهم وخيرتهم هم: الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
ومع ذلك لو نقب الإنسان وقرأ في الكتب، ورأى في أحوال الأمة الذين ينتسبون للإسلام، لعجب كل العجب مما تقوله الخوارج والروافض والباطنية وأشباههم في حق هذين الشيخين الجليلين الصحابيين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته، وخليفتيه بعد مماته، فماذا تتوقعون أن يقال فيمن هو دون هؤلاء؟!
فالواجب الصبر، والواجب أن يتخلق الداعية بأعلى درجات العفو والصفح والحلم والتجاوز، وألاَّ ينتقم لنفسه، وإنما يعلم أنه إن أصيب من سلطة مسئولية أو من كان ذا كبر وشأن عند الناس، أو سفيه جاهل متطاول، أو من قريب أو بعيد أو حتى من الزوج أو الابن، فكل ذلك إنما هو امتحان وابتلاء، فليصبر على ذلك ليرفع الله تبارك وتعالى به درجته وليثبته على الحق، وليكفر عنه من خطاياه.
فإن العبد المؤمن لا يأمن على نفسه أن يعمل عملاً، فتكون فيه شائبة لغير الله -عز وجل- أو يقصر في أمر أو يدعو الناس إلى طاعة ولا يأتيها، أو يضعف ويفتر عزمه فيها، فكل ذلك يحتاج إلى المكفرات، وهذه المكفرات هي من نعمة الله -تبارك وتعالى- على العبد، ومن ذلك كما قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما يصيب العبد من هم ولا نصب ولا حزن إلا كان كفارة لخطاياه } أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكفر الله تعالى عنه بهذه اللأواء وبهذه المصائب وبما يعرض له.
فلذلك لا يكرهها المؤمن ولا يحقرها، وإنما يحمد الله -تبارك وتعالى- عليها وعلى كل أحواله، وليجتهد في الدعوة إلى الله -عز وجل- على ما أمر الله ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
هذا ما أردت أن أقوله، وكل ما قلته لا جديد فيه، أسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا هداة مهديين صادقين خاشعين قانتين إنه سميع مجيب.