اقتضت سنة الله في خلقه أن تقوم أمم وحضارات ثم تنتهي لتقوم غيرها وهكذا دواليك، ولن تجد أمة من الأمم تقوم إلى ما لا نهاية {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) {>سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً} (الفتح: 23).
ومن اللافت للنظر في تعاقب الحضارات أن اللاحق يبني على السابق ويقوم عليه، وليس هناك من حضارة تبدأ من الصفر، ومن هنا فقد كان للمسلمين أكبر الآثار والإسهامات في بناء الحضارة الأوروبية الحديثة التي جاءت لاحقة لها وبنيت عليها بناءً كليًا، كما كان لحضارة اليونان التي استمدت بدورها علومها من المصريين القدماء والبابليين وغيرهم - أكبر الأثر في حضارة المسلمين.
وفيما يتصل بعلم الهندسة فقد "عقد ليون فصلاً في تأثير العرب في الصناعات - ولاسيما في الهندسة - في الغرب فقال: ربما ادعى بعضهم أن الهندسة الجوثية مأخوذة عن العرب، وهذا وهم؛ فإننا إذا قابلنا بين كاتدرائية جوثية من القرن الثالث عشر والرابع عشر وبين مسجد من القرنين نجد اختلافًا بينا بينهما.
ولما كانت الفنون تعبر عن حاجات عصر وعواطف أهله، اختلفت هندسة الغرب عن الهندسة العربية في الشرق، وقد أخذت أوربا من المسلمين تفاصيل في الزينة، ووجدت على بعض البِيَع في فرنسا صور حروف عربية منحوتة في الحجر، وأكاليل على بعض الحصون تشبه الطراز الإسلامي، وكثير من كنائس فرنسا تأثرت بالهندسة الإسلامية، ولا سيما في المدن التي كان لها علائق كثيرة مع الشرق.
وقد جَلَبَ الصليبيون من الشرق أصول هندسة بيت المؤذن في المنارات والمشربيات، والمعرقات والمراصد في الأبراج والزغاليل، والأبراج الناتئة والأفازير ذات الدرابزين، واستخدمت فرنسا كثيرًا من المهندسين الأجانب وكان فيهم المسلمون، حتى إن كنيسة (نوتردام دي باري) المشهورة في عاصمة فرنسا عمل فيها مهندسون من المسلمين.
أما تأثير المسلمين في هندسة إسبانيا فظاهر ظهور الشمس والقمر إلى أن قال: قد ينقرض شعب وتحرق كتبه وتهدم مصانعه، ولكن التأثير الذي أثَّره يقاوم أكثر مما يقاوم الفلز، وليس طاقة القوة البشرية أن تأتي عليه، والقرون قد تفعل في القضاء عليه أكثر من ذلك" (26).
ومن أبرز آثار المسلمين في الحضارة الغربية ذلك القصر الشامخ الذي يطل على غرناطة في موقع طبيعي بديع، ذلك هو (قصر الحمراء) الذي بناه محمد بن يوسف بن الأحمر (671هـ / 1272م)، ثم وسَّعه وزيَّنه خلفاؤه من بعده، حتى نقش على جداره:
فُقتُ الحِسَان بحُلَّتي وبتاجيفَهَوَتْ إليَّ الشُّهْبُ في الأبراج
وهذا القصر يزوره سنويًا ما بين (50 - 60) مليون نسمة، من جميع أنحاء العالم، من اليابان إلى أميركا اللاتينية، قُسِّم هذا العدد السنوي على عدد أيام السنة فكان متوسط عدد الزوار يوميًا أكثر من مئة وخمسين ألف زائر، يدفع كل واحد منهم حين دخوله باب القصر ثمانية يورو - قرابة 12 دولار - فالدخل اليومي أكثر من مليون ومئتي ألف يورو عند باب قصر الحمراء، ناهيك عن نفقات الزوار في الفنادق والمطاعم والهدايا.
حتى لقد قيل: يوجد مطبعة عند باب القصر لليورو تعمل يوميًا لساعات طويلة، وملاحظة أن مجموع دخل الدول العربية كلها بما فيها النفطية لا يساوي دخل إسبانيا من السياحة!! (27).
منقول